الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
فلما وصل إلى اسمه قال: العبد الذليل المعترف بالصنع الجميل في المقام الجليل أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عقيل فاستحسن ذلك منه ثم حذا حذوه الأعز بن سلامة وقد استقضى في آخر الوقت فقال المملوك في محل الكرامة الذي عليه من الولاء أصدق علامة: حسن بن علي بن سلامة ثم يستدعي من ذكرنا وقوفهم على باب المنبر بنعوتهم وذكر خدمهم ودعائهم على الترتيب فإذا طلع الجماعة وكل منهم يعرف مقامه في المنبر يمنة ويسرة أشار الوزير إليهم فأخذ هو من كل جانب بيده نصيبًا من اللواء الذي بجانبه فيستر الخليفة ويسترون وينادى في الناس بأن ينصتوا فيخطب الخليفة من المسطور على العادة وهي خطبة بليغة موافقة لذلك اليوم فإذا فرغ ألقى كل من في يده من اللواء شيء خارج المنبر فينكشفون وينزلون أولًا فأولًا الأقرب فالأقرب إلى القهقرى فإذا خلا المنبر منهم قام الخليفة هابطًا ودخل إلى المكان الذي خرج منه فلبث يسيرًا وركب في زينه المفخم وعاد من طريقه بعينها إلى أن يصل إلى قريب القصر فيتقدمه الوزير كما شرحنا ثم يدخل من باب العيد فيجلس في الشباك وقد نصب منه إلى فسقية كانت في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماط من الخشكنان والبسندود والبرماورد مثل الجبل الشاهق وفيه القطعة وزنها من ربع قنطار إلى رطل فيدخل ذلك الجمع إليه ويفطر منه من يفطر وينقل منه من ينقل ويباح ولا يحجر عليه ولا مانع دونه فيمر ذلك بأيدي الناس وليس هو مما يعتد به ولا يعبئ مما يفرق للناس ويحمل إلى دورهم ويعمل في هذا اليوم سماط من الطعام في القاعة يحضر عليه الخليفة والوزير فإذا انقضى ذو القعدة وهل هلال ذي الحجة اهتم بركوب عيد النحر فيجري حاله كما جرى في عيد الفطر من الزي والركوب إلى المصلى ويكون لباس الخليفة فيه الأحمر الموشح ولا ينخرم منه شيء انتهى. وصعد مرة الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد المنبر يوم عيد فوقف الشريف ابن أنس الدولة بإزائه وقال مشيرًا إلى الحاضرين: خشوعًا فإن الله هذا مقامه وهمسًا فهذا وجهه وكلامه وهذا الذي في كل وقت بروزه تحياته من ربنا وسلامه فضرب الحافظ الجانب الأيسر من المنبر فرقي إليه زمام القصر فقال له: قل للشريف حسبك قضيب حاجتك ولم يدعه يقول شيئًا آخر وكانت تكبت المخلقات بركوب أمير المؤمنين لصلاة العيد ويبعث بها إلى الأعمال. فمما كتب به من إنشاء ابن الصيرفي: أما بعد فالحمد لله الذي رفع بأمر المؤمنين عماد الإيمان وثبت قواعده وعز بخلافته معتقده وأذل بمعابته معانده وأظهر من نوره ما انبسط في الآفاق وزال معه الإظلام ونسخ به ما تقدمه من الملل فقال: إن الدين عند الله الإسلام وجعل المعتصم بحبله مفضلًا على من يفاخره ويباهيه وأوجب دخول الجنة وخلودها لمن عمل بأوامره ونواهيه وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي اصطفى له الدين وبعثه إلى الأقربين والأبعدين وأيده في الإرشاد حتى صار العاصي مطيعًا ودخل الناس في التوحيد فرادى وجميعًا وغدوًا بعروته الوثقى متمسكين وأنزل عليه قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إمام الأمة وكاشف الغمة وأوجه الشفعاء لشيعته يوم العرض ومن الإخلاص في ولائه قيام بحق وأداء فرض وعلى الأئمة من ذريتهما سادة البرية والعادلين في القضية والعاملين بالسيرة المرضية وسلم وكرم وشرف وعظم وكتاب أمير المؤمنين هذا إليك يوم الثلاثاء: عيد الفطر من سنة ست وثلاثين وخمسمائة وقد كان من قيام أمير المؤمنين بحقه وأدائه وجريه في ذلك على عادته وعادة من قبله من آبائه ما ينبئك به ويطلعك على مستوره عنك ومغيبه وذلك أن دنس ثوب الليل لما بيضه الصباح وعاد المحرم المحظور بما أطلقه المحلل المباح توجهت عساكر أمير المؤمنين من مظانها إلى بابه وأفطرت بين يديه بعدما حازته من أجر الصيام وثوابه ثم انثنت إلى مصافها في الهيئات التي يقصر عنها تجريد الصفات وتغني مهابتها عن تجريد المرهفات وتشهد أسلحتها وعددها بالتنافس في المهم وتلق مواضيها في أغمادها شوقًا إلى الطلى والقمم وقد امتلأت الأرض بازدحام الرجل والخيلن وثار العجاج فلم ير أقرب من اجتماع النهار والليل وبرز أمير المؤمنين من قصوره وظهر للأبصار على أنه محتجب بضيائه ونوره وتوجه إلى المصلى في هدي جده وأبيه والوقار الذي ارتفع فيه عن النظير والشبيه ولما انتهى إليه قصد المحراب واستقبله وأدى الصلاة على وضع رضيه الله وتقبله وأجرى أمها على أفضل المعهود ووفاها حقها من القراءة والتكبير والركوع والسجود وانتهى إلى المنبر فعلا وكبر الله وهلله على ما أولاه وذكر الثواب على إخراج الفطرة وبشر به وإن المسارعة إليه من مسائل المحافظة على الخير وقربه ووعظ وعظًا ينتفع قابله في عاجلته ومنقلبه ثم عاد إلى قصوره الزاهرة مشمولًا بالوقاية مكنوفًا بالكفاية منتهيًا في إرشاد عبيده ورعاياه أقصى الغاية أعلمك أمير المؤمنين خبر هذا اليوم لتعلم منه ما تسكن إليه وتعلن بتلاوته على الكافة ليشتركوا في معرفته ويشكروا الله عليه فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى. وكان من أهل برقة طائفة تعرف بصبيان الخف لها إقطاعات وجرايات وكسوات ورسوم فإذا ركب الخليفة في العيدين مدوا حبلين مسطوحين من أعلى باب النصر إلى الأرض حبلًا عن يمين الباب وحبلًا عن شماله فإذا عاد الخليفة من المصلى نزل على الحبلين طائفة من هؤلاء على أشكال خير من خشب مدهون وفي أيديهم رايات وخلف كل واحد منهم رديف وتحت رجليه آخر معلق بيديه ورجليه ويعملون أعمالًا تذهل العقول ويركب منهم جماعة في الموكب على خيول فيركضون وهم يتقلبون عليها ويخرج الواحد منهم من تحت إبط الفرس وهو يركض ويعود يركب من الجانب الآخر وهو على حاله لا يتوقف ولا يسقط منه شيء إلى الأرض ومنهم من يقف على ظهر الحصان فيركض به وهو واقف. ذكر القصر الصغير الغربي وكان تجاه القصر الكبير الشرقي الذي تقدم ذكره في غريبه قصر آخر صغير يعرف بالقصر الغربي ومكانه الآن حيث المارستان المنصوري وما في صفه من المدارس ودار الأمير بيسري وباب قبو الخرنشف وربع الملك الكامل المطل على سوق الدجاجين اليوم المعروف قديمًا بالتبانين وما يجاوره من الدرب المعروف اليوم بدرب الخضيري تجاه الجامع الأقمر وما وراء هذه الأماكن إلى الخليج وكان هذا القصر الغربي يعرف أيضًا بقصر البحر والذي بناه العزيز بالله نزار بن المعز. قال المسبحي: ولم يبن مثله في شرق ولا في غرب. وقال ابن أبي طي في أخبار سنة سبع وخمسين وأربعمائة ففيها تمم الخليفة المستنصر بناء القصر الغربي وسكنه وغرم عليه ألفي ألف دينار وكان ابتداء بنيانه في سنة خمسين وأربعمائة وكان سبب بنائه أنه غرم على أن يجعله منزلًا للخليفة القائم بأمر الله صاحب بغداد ويجمع بني العباس إليه ويجعله كالمجلس لهم فخانه أمله وتممه في هذه السنة وجعله لنفسه وسكنه. وقال ابن ميسر: إن ست الملك أخت الحاكم كانت أكبر من أخيها الحاكم وإن والدها العزيز بالله كان قد أفردها بسكنى القصر الغربي وجعل لها طائفة برسمها كانوا يسمون: بالقصرية وهذا يدلك على أن القصر الغربي كان قد بنى قبل المستنصر وهو الصحيح وكان هذا القصر يشتمل أيضًا على عدة أماكن: الميدان: وكان بجوار القصر الغربي ومن حقوقه الميدان ويعرف هذا الميدان اليوم بالخرنشف البستان الكافوري: وكان من حقوق القصر الصغير الغربي: البستان الكافوري وكان بستانًا أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف الإخشيد أمير مصر وكان مطلًا على الخليج فاعتنى به الإخشيد وجعل له أبوابًا من حديد وكان ينزل به ويقيم فيه الأيام واهتم بشأنه من بعد الإخشيد ابناه: الأمير أبو القاسم أونوجور بن الإخشيد والأمير أبو الحسن علي بن الإخشيد في أيام إمارتهما بعد أبيهما فلما استبد من بعدهما الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيدي بإمارة مصر كان كثيرًا ما يتنزه به ويواصل الركوب إلى الميدان الذي كان فيه وكانت خيوله بهذا الميدان. فلما قدم القائد جوهر من المغرب بجيوش مولاه المعز لدين الله لأخذ ديار مصر أناخ بجوار هذا البستان وجعله من جملة القاهرة وكان منتهزًا للخلفاء الفاطميين مدة أيامهم وكانوا يتوصلون إليه من سراديب مبنية تحت الأرض ينزلون إليها من القصر الكبير الشرقي ويسيرون فيها بالدواب إلى البستان الكافوري ومناظر اللؤلؤة بحيث لا تراهم الأعين وما زال البستان عامرًا إلى أن زالت الدولة فحكر وبنى فيه في سنة إحدى وخمسين وستمائة كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر الحارات والخطط من هذا الكتاب وأما الأقباء والسراديب فإنها عملت أسربة للمراحيض وهي باقية إلى يومنا هذا تصب في الخليج. القاعة: وكان من جملة القصر الغربي قاعة كبيرة هي الآن المارستان المنصوري حيث المرضى كانت سكن ست الملك أخت الحاكم بأمر الله وكانت أحوالها متسعة جدًا. قال في كتاب الذخائر والتحف: وأهدت السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله إلى أخيها يوم الثلاثاء التاسع من شعبان سنة سبع وثمان وثلثمائة: هدايا من جملتها: ثلاثون فرسًا بمركبها ذهبًا منها: مركب واحد مرصع ومركب من حجر البلور وعشرون بغلة بسروحها ولحمها وخمسون خادمًا منهم عشرة صقالبة ومائة تخت من أنواع الثياب وفاخرها وتاج مرصع بنفيس الجوهر وبديعه وشاشية مرصعة وأسفاط كثيرة من طيب من سائر أنواعه وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر. قال: وخلفت حين ماتت في مستهل جمادى الآخرة من سنة خمس وعشرين وأربعمائة ما لا يحصى كثرة وكان إقطاعها في كل سنة يغل خمسين ألف دينار ووجد لها بعد وفاتها ثمانية آلاف جارية منها بنيات ألف وخمسمائة وكانت سمحة نبيلة كريمة الأخلاق والفعل وكان في جملة موجودها نيف وثلاثون زيرًا صينيًا مملوءًا جميعها مسكًا مسحوقًا ووجد لها جوهر نفيس من جملته قطعة ياقوت ذكر أن فيها عشرة مثاقيل. قال المسبحي: ولدت بالمغرب في ذي القعدة سنة خمس وثلثمائة ولما زالت الدولة عرفت هذه الدار: بالأمير فخر الدين جهاركس. . موسك ثم بالملك المفضل قطب الدين. . بن الملك العادل فلما كان في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين وستمائة شرع الملك المنصور قلاون الألفي في بنائها مارستنًا ومدرسة وتربة وتولى عمارتها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي مدبر الممالك ويقال: إن ذرع هذه الدار عشرة آلاف وستمائة ذراع. أبواب القصر الغربي كان لهذا القصر عدة أبواب: منها: باب الساباط وباب التبانين وباب الزمرذ.
: هذا الباب موضعه الآن باب سر المارستان المنصوري الذي يخرج منه الآن إلى الخرنشف وكان من الرسم أن يذبح في باب الساباط المذكور مدة أيام النحر وفي عيد الغدير عدة ذبائح تفرق على سبيل الشرف. قال ابن المأمون: في سنة ست عشرة وخمسمائة وجملة ما نحره الخليفة الآمر بأحكام الله وذبحه خاصة في المنحر وباب الساباط دون المأمون وأولاده وإخوته في ثلاثة الأيام: ألف وسبعمائة وستة وأربعون رأسًا فذكر ما كان بالمنحر قال: وفي باب الساباط مما يحمل إلى من حوته القصور وإلى دار الوزارة والأصحاب والحواشي اثنتا عشر ناقة وثمانية عشر رأس بقر وخمسة عشر رأس جاموس ومن الكباش: ألف وثمانمائة رأس ويتصدق كل يوم في باب وقال ابن عبد الظاهر: كان في القصر باب يعرف بباب الساباط كان الخليفة في العبيد يخرج منه إلى الميدان وهو الخرنشف الآن لينحر فيه الضحايا. باب التبانني: هذا الباب مكان باب الخرنشف الآن وجعل في موضعه دار العلم التي بناها الحاكم الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. باب الزمرذ: كان موضع اصطبل القطبية قريبًا من باب البستان الكافوري الموجود الآن. دار العلم وكان بجوار القصر الغربي من بحريه دار العلم ويدخل إليها من باب التبانين الذي هو الآن يعرف: بقبو الخرنشف وصار مكان دار العلم الآن الدار المعروفة بدار الخضيري الكائنة بدرب الخضيري المقابل للجامع الأقمر ودار العلم هذه اتخذها الحاكم بأمر الله فاستمرت إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش. قال الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله المسبحي: وفي يوم السبت هذا يعني العاشر من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة وجلس فيها الفقهاء وحملت الكتب إليها من خزائن القصور المعمورة ودخل الناس إليها ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها مما التمسه وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها وجلس فيها القراء والمنجمون وأصحاب النحو واللغة والأطباء بعد أن فرشت هذه الدار وزخرفت وعلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور وأقيم قوام وخدام وفراشون وغيرهم وسموا بخدمتها وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعًا لأحد قط من وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضًا التي لم يسمع بمثلها من إجراء الرزق السني لمن رسم له بالجلوس فيها والخدمة لها من فقيه وغيره وحضرها الناس على طبقاتهم فمنهم من يحضر لقراءة الكتب ومنهم من يحضر للنسخ ومنهم من يحضر للتعلم وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر وهي الدار المعروفة بمختار الصقلبي. قال: وفي سنة ثلاث وأربعمائة: أحضر جماعة من دار العلم من أهل الحساب والمنطق وجماعة من الفقهاء منهم: عبد الغني بن سعيد وجماعة من الأطباء إلى حضرة الحاكم بأمر الله وكانت كل طائفة تحضر على انفرادها للمناظرة بين يديه ثم خلع على الجميع ووصلهم ووقف الحاكم بأمر الله أماكن في فسطاط مصر على عدة مواضع وضمنها كتابًا ثبت على قاضي القضاة: مالك بن سعيد وقد ذكر عند ذكر الجامع الأزهر وقال فيه: وقد ذكر دار العلم ويكون العشر وثمن العشر لدار الحكمة لما يحتاج إليه في كل سنة من العين المغربي: مائتان وسبعة وخمسون دينارًا من ذلك الثمن الحصر العبداني وغيرها لهذه الدار عشرة دنانير ومن ذلك لورق الكاتب يعني الناسخ تسعون دينارًا ومن ذلك للخازن بها ثمانية وأربعون دينارًا ومن ذلك لثمن الماء اثنا عشر دينارًا ومن ذلك للفراش خمسة عشر دينارًا ومن ذلك للورق والحبر والأقلام لمن ينظر فيها من الفقهاء اثنا عشر دينارًا ومنذلك لمرمة الستارة: دينار واحد ومن ذلك لمرمة ما عسى أن يتقطع من الكتب وما عساه أن يسقط من ورقها: اثنا عشر دينارًا ومن ذلك لثمن لبود للفرش في الشتاء خمسة دنانير ومن ذلك لثمن طنافس في الشتاء أربعة دنانير. وقال ابن المأمون: وفي هذا الشهر يعني شهر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة جرت نوبة القصار وهي طويلة وأولها من الأيام الأفضلية وكان فيهم رجلان يسمى أحدهما: بركات والآخر: حميد بن مكي الإطفيحي القصار مع جماعة يعرفون بالبديعية وهم على الإسلام والمذاهب الثلاثة المشهورة وكانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة فاعتمد بركات من جملتهم أن استفسد عقول جماعة وأخرجهم عن الصواب وكان ذلك في أيام الأفضل فأمر للوقت بغلق دار العلم والقبض على المذكور فهرب وكان من جملة من استفسد عقله بركات المذكور: أستاذان من القصر. فلما طلب بركات المذكور واستتر دقق الأستاذان الحيلة إلى أن دخلاه عندهما في زي جارية اشترياها وقاما بحقه وجميع ما يحتاج إليه وصار أهله يدخلون إليه في بعض الأوقات فمرض بركات عند الأستاذين فحارا في أمره ومداواته وتعذر عليهما إحضار طبيب له واشتد مرضه ومات فأعملا الحيلة وعرفا زمام القصر أن إحدى عجائزهما قد توفيت وأن عجائزهما يغسلنها على عادة القصور ويشيعنها إلى تربة النعمان بالقرافة وكتبا عدة من يخرج ففسح لهما في العدة وأخذا في غسله وألبساه ما أخذاه من أهله وهو ثياب معلمة وشاشية ومنديل وطيلسان مقور وأدرجوه في الديبقي وتوجه مع التابوت الأستاذان المشار إليهما فلما قطعوا به بعض الطريق أرادا تكميل الأجر له على قدر عقولهما فقالا للحمالين: هو رجل تربيته عندنا فنادوا عليه: نداء الرجال واكتموا الحال وهذه أربعة دنانير لكم فسر الحمالون بذلك فلما عادوا إلى صاحب الدكان عرفوه بما جرى وقاسموه الدنانير فخافت نفسه وعلم أنها قضية لا تخفى فمضى بهم إلى الوالي وشرح له القضية فأودعهم في الاعتقال وأخذ الذهب منهم وكتب مطالعة بالحال. فمن أول ما سمع القائد أبو عبد الله بن فاتك الذي قيل له بعد ذلك: المأمون بالقضية وكان مدبر الأمور في الأيام الأفضلية قال: هو بركات المطلوب وأمر بإحضار الأستاذين والكشف عن القضية وإحضار الحمالين والكشف عن القبر بحضورهم فإذا تحققوه أمرهم بلعنه فمن أجاب إلى ذلك منهم أطلقوه ومن أبى أحضروه فحققوا معرفته فمنهم من بصق في وجهه وتبرأ منه ومنهم من هم بتقبيله ولم يتبرأ منه فجلس الأفضل واستدعى الوالي والسياف واستدعى من كان تحت الحوطة من أصحابه فكل من تبرأ منه ولعنه أطلق سبيله وبقي من الجماعة ممن لم يتبرأ منه: خمسة نفر وصبي لم يبلغ الحلم فأمر بضرب رقابهم وطلب الأستاذين فلم يقدر عليهما وقال للصبي: من لفظه تبرأ منه وأنعم عليك وأطلق سبيلك فقال له: الله يطالبك إن لم تلحقني بهم فإني مشاهد ما هم فيه وأخذ بسيفه على الأفضل فأمر بضرب عنقه فلما توفي الأفضل أمر الخليفة الآمر بأحكام الله: وزيره المأمون بن البطائحي باتخاذ دار العلم وأفسد عقل أستاذ وخياط وجماعة وادعى الربوبية فحضر الداعي ابن عبد الحقيق إلى الوزير المأمون وعفه بأن هذا قد تعرف بطرف من علم الكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري ثم انسلخ عن الإسلام وسلك طريق الحلاج في التمويه فاستهوى من ضعف عقله وقلة بصيرته فإن الحلاج في أول أمره كان يدعي أنه: داعية المهدي ثم ادعى أنه المهدي ثم ادعى الإلهية وأن الجن تخدمه وأنه أحيى عدة من الطيور وكان هذا القصار شيعي الدين وجرت له أمور في الأيام الأفضلية ونفي دفعة واعتقل أخرى ثم هرب بعد ذلك ثم حضر وصار يواصل طلوع الجبل واستصحب من استهواء من أصحابه فإذا أبعد قال لبعضهم بعد أن يصلي ركعتين: نطلب شيئًا تأكله أصحابنا فيمضي ولا يلبث دون أن يعود ومعه ما كان أعده مع بعض خاصته الذين يطلعون على باطنه فكانوا يهابونه ويعظمونه حتى أنهم يخافون الإثم في تأمل صورته فلا ينفكون مطرفين بين يديه وكان قصيرًا دميم الخلقة وادعى مع ذلك الربوبية وكان ممن اختص بحميد رجل خياط وخصي فرسم المأمون بالقبض على المذكور وعلى جميع أصحابه فهرب الخياط وطلب فلم يوجد ونودي عليه وبذل لمن يحضر به مال فلم يقدر عليه واعتقل القصار وأصحابه وقرروا فلم يقروا بشيء من حاله وبعد أيام تماوت في الحبس. فلما استؤمر عليه أمر بدفنه فلما حمل ليدفن ظهر أنه حي فأعيد إلى الاعتقال وبقي كل من لم يتبرأ منه معتقلًا ما خلى الخصي فإنه لم يتبرًا منه وذكر أن القتل لا يصل إليه فأمر بقطع لسانه ورمى قدامه وهو مصر على ما في نفسه فأخرج القصار والخصي ومن لم يتبرأ منه من أصحابه فصلبوا على الخشب وضربوا بالنشاب فماتوا لوقتهم ثم نودي على الخياط ثانيًا فأحضر وفعل به ما فعل بأصحابه بعد أن قل له: ها أنت تنظره فلم يتبرأ منه وصلب إلى جانبه. وذكر أن بعض أصحاب هذا القصار ممن لم يعرف أنه كان يشتري الكافور ويرميه بالقرب من خشبته التي هو مصلوب عليها فيستقبل رائحته من سلك تلك الطريق ويقصد بذلك أن يربط عقول من كان القصار قد أضله فأمر المأمون أن يحطوا عن الخشب وأن تخلط رممهم ويدفنوا متفرقين حتى لا يعرف قبر القصار من قبورهم وكان قتلهم في سنة سبع عشرة وخمسمائة قال: وكان الشريف عبد الله يحدث عن صديق له مأمول القول: إنه أخبره أنه لما شاع خبر هذا القصار وما ظهر منه أراد أن يمتحنه فتسبب إلى أن خالطه وصار في جملة أصحابه ومن يعظمه ويطلع معه إلى الجبل فأفسد عقله وغير معتقده وأخرجه عن الإسلام وأنه لامه على ذلك وردعه فحدثه بعجائب منها أنه قال: والله ما من الجماعة الذين يطلعون معه إلى الجبل أحد إلا ويسأله ويستدعيه ما يريد على سبيل الامتحان فيحضره إليه لوقته وإن بيده سكينًا لا تقطع إلا بيده وإذا أمسك طائرًا وقبضه أحد من الحاضرين يدفع السكين التي معه له ويقول له: اذبحه فلا تمشي في يده فيأخذها هو ويذبحه بها ويجري دمه ثم يعود ويمسكه بيده ويسرحه فيطير ويقول: إن الحديد لا يعمل فيه ويوسع القول فيما يشاهده منه ويسمعه فلما اعتقل القصار بقي هذا الرجل مصرًا على اعتقاده فلما قتل وخرج إليه وشاهده وتحقق موته علم أن ما كان فيه سحر وزور وإفك فتصدق بجملة من ماله وعاد إلى مذهبه وصح معتقده. وقال ابن عبد الظاهر: دار العلم كان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطلها وهي بجوار باب التبانين وهي متصلة بالقصر الصغير وفيها مدفون الداعي: المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الأعجمي وكان لإبطالها أمور سببها اجتماع الناس والخوض في المذاهب والخوف من الاجتماع على المذهب النزاري ولم يزل الخدام يتوصلون إلى الخليفة الآمر بأحكام الله حتى تحدث في ذلك مع الوزير المأمون فقال: أين تكون هذه الدار فقال بعض الخدام: تكون بالدار التي كانت أولًا فقال المأمون: هذا لا يكون لأن باب صار من جملة أبواب القصر وبرسم الحوائج ولا يمكن الاجتماع ولا يؤمن من غريب يتحصل به فأشار كل من الأستاذين بشيء فأشار بعضهم أن تكون في بيت المال القديم فقال المأمون: يا سبحان الله قد منعنا أن تكون متاخمة للقصر الكبير الذي هو سكن الخليفة نجعلها ملاصقة فقال الثقة زمام القصور: في جواري موضع ليس ملاصقًا للقصر ولا مخالطًا له يجوز أن يعمر ويكون دار العلم فأجاب المأمون إلى ذلك وقال: بشرط أن يكون متوليها رجلًا دينًا والداعي الناظر فيها ويقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن فاستخدم فيها أبو محمد حسن بن آدم فتولاها وشرط عليه ما تقدم ذكره واستخدم فيها مقرئون.
|